الاثنين، 23 مارس 2009

مشاكل الصحة في العراق



اليوم وبعد مرور ما يقرب من خمسة أعوام على سقوط صدام حسين، يظل نظام الرعاية الصحية في البلاد فوضويا، فبينما تفتقر معظم المستشفيات إلى الإمدادات الرئيسية، والعديد من العيادات غير مكتملة، تبقى التجهيزات الطبية قابعة في المخازن شاهدة على تجربة الولايات المتحدة في العراق؛ هكذا عبر "براتاب شاترجي" رئيس المنظمة الأمريكية - غير الحكومية- لمراقبة شركات إعادة الإعمار في تقريره الأخير حول أوضاع الرعاية الصحية في العراق، والذي نشر على موقع المنظمة بتاريخ 8 يناير 2007 تحت عنوان "الرعاية الصحية عالية التقنية في العراق.. تنقصها الرعاية الصحية"، وتضمن التقرير تفاصيل كثيرة حول دور شركات إعادة الإعمار الصحي والإدارة الأمريكية في خلق فوضى "غير خلاقة" في القطاع الصحي بالعراق.
النظام منحنى الصحي العراقي:
منذ سبعينيات القرن العشرين اعتمد العراق على نظام صحي علاجي مركزي مجاني، يعتمد بالأساس على سلسلة من المستشفيات ذات التجهيزات المعقدة والأطقم الطبية المتخصصة، كما اعتمد على استيراد كميات كبيرة من الأدوية والتجهيزات الطبية وحتى أطقم التمريض.
وبحسب تقرير مشترك نشرته منظمة الأمم المتحدة اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية في يوليو 2003، أنه في ظل هذا النظام كان يمكن لـ 97% من سكان الحضر، و71% من سكان الريف العراقي الوصول إلى الرعاية الصحية الأولية. وقد تسببت الحرب والعقوبات التي تلت الغزو العراقي للكويت في انهيار ذلك النظام الصحي، فمع تلوث المياه والانقطاع المتكرر للكهرباء صار من العسير تشغيل الأجهزة الطبية غالية الثمن، وزادت نسبة الوفيات من الإسهال خمسة أضعاف، وانتشرت أمراض سوء التغذية والتهابات الجهاز التنفسي.
وبعد الاحتلال لم تتحقق إعادة الحيوية للنظام الصحي العراقي، وترجع جذور ذلك إلى ما بعد الغزو مباشرة -كما يشير كاتب التقرير- نتيجة لتغير المسئولين عن إدارة وزارة الصحة بين الحين والآخر، وأن بعض هؤلاء المسئولين لم يكن لديهم خبرة في العمل الطبي أو التخطيط الصحي، بالإضافة إلى أن جميعهم قادمون من الخارج، دون خبرة باحتياجات العراق سواء في ذلك الأمريكيون منهم أو العراقيون، وهو ما أدى لعدم معرفتهم بأولويات الاحتياجات الخاصة بإصلاح النظام الصحي في العراق.
وقد قدم التقرير عدة نماذج وحكايات حول مظاهر هذا التخبط.
مقاولات وتجهيزات بلا رعاية
النموذج الأول الذي عرض له التقرير يتحدث عن وصول تجهيزات طبية عالية التقنية بتكلفة 70 مليون دولار إلى المخازن التي تملكها إحدى الشركات الكويتية في أبو غريب، وكان من المفترض أنها شحنت لصالح مشروع تتبناه الإدارة الهندسية للجيش الأمريكي؛ لبناء وتجهيز 150 مركزا للرعاية الصحية الأولية، لكن التقرير كشف عن عدد من الأمور العجيبة وهي:
- أولا: اختفاء حاوية من بين 14 حاوية ضمت تلك التجهيزات.
- ثانيا: 40% من التجهيزات وصلت وأودعت في المخازن، لكنها إما تحطمت أو نقصت بعض أجزائها.
- ثالثا: الإدارة الهندسية ألغت تأسيس 130 من بين الـ 150 مركزا التي وصلت إليهم التجهيزات.
- رابعا: المشروع كان يتضمن برنامجا تدريبيا للطاقم الطبي العراقي على التعامل مع تلك الأجهزة مدته 15 يوما، لكن الإدارة الهندسية قررت تقليص البرنامج إلى 10 ثم إلى 3 أيام.. لم تنفذ بعد!
- خامسا: إن شركة "بارسونز جلوبال" المسئولة عن تلك التوريدات حققت أرباحا تقدر بـ 3.3 ملايين دولار من الصفقة.
- سادسا: التجهيزات الطبيبة تقبع بالملايين في المخازن، بينما تبقى المنشئات الصحية الحديثة التي شرع في إنشائها مهملة وغير مكتملة، ويقوم عشرات من الأطباء بإجراء عمليات جراحية في المستشفيات القائمة بالفعل والتي تفتقر إلى الإمدادات الأساسية مثل أجهزة التعقيم والتخدير.
- سابعا: ألغي المشروع برمته في الثالث من إبريل عام 2006 بينما لم يتم الانتهاء إلا من بناء 6 مراكز.
وقد أرجع تقرير الهيئة الأمريكية المستقلة للإشراف على إعادة إعمار العراق "سيجير" الفشل في إتمام المشروع إلى تراخي إشراف الإدارة الهندسية، وقلة جودة مواد البناء المحلية، وإضراب شركات البناء المحلية في العراق، بينما أرجعته الإدارة الهندسية إلى فشل الشركة في التخطيط الجيد لجدولة المشروع، وقد ردت الشركة بأن المشروع كان مقررا له أن ينتهي في عامين بينما أرادت الإدارة الهندسية إنهاءه في عام واحد.
وقد نوه التقرير إلى أن إلغاء العقد جاء بعد فشل الشركة في إنهائه لفترة امتدت 25 شهرا بعد التعاقد.
أولويات على مقاس المقاولات:
النموذج الثاني الذي عرض له التقرير كان حول تعاقد سلطة الائتلاف المؤقتة مع شركة "آبت أسوشيتس" بمبلغ 43 مليون دولار لتحديث وزارة الصحة العراقية وتزويدها بالإمدادات، لكن ماري بارترسون أول مديرة للمشروع من قبل الشركة اصطدمت بجيم هافمان المسئول عن إدارة وزارة الصحة من قبل سلطة الاحتلال، وذلك لاعتراضها على إستراتيجيته في إنفاق أموال الوزارة لبناء مراكز صحية جديدة وإمدادها بالتجهيزات؛ بينما كانت ترى أنه من الأولى إمداد المؤسسات الصحية القائمة بالمستلزمات العاجلة المطلوبة الواضحة للعيان، وأن ذلك كان من شأنه أن يكون الأسرع تأثيرا في تحسين حالة الرعاية الصحية بدلا من إنفاق الأموال الطائلة على بناء وتجهيز الجديد.
وكان جزاؤها أن سحبت من العراق وأجبرت على الاستقالة من الشركة، وتوالى على إدارة المشروع بعد ذلك ثلاثة مديرين في أربعة أشهر مما جعل من المستحيل إتمام مهامهم بشكل فعال. وكما أشار التقرير فإن شحنات التجهيزات الطبية التي جلبتها الشركة وصلت بأجزاء ناقصة أو محطمة، وأسند توريد البعض الآخر (كأجهزة الأوتوكلاف) إلى شركات ليست لها سابق خبرة في تصنيعها.
من بين المشاريع الكبرى الأخرى التي أسندت للشركة هو إنشاء نظام إلكتروني سريع لمراقبة الأمراض، ويعتمد على التقارير التليفونية لتتبع الأمراض المعدية مع إدخال عاجل للبيانات والمعلومات المتاحة، وهو المشروع الذي تجاهل حقيقة افتقار الكثير من المستشفيات العراقية إلى الكهرباء أو الخدمة التليفونية، كما لم تقم الشركة بتوريد قاعدة البيانات اللازمة لتشغيل النظام، بالإضافة إلى أن جهاز الكمبيوتر الخاص بوزارة الصحة الذي كان من المفترض أن يتم تشغيل النظام من خلاله كان مصابا بفيروس، وقد انسحب فريق الشركة من العراق في إبريل من عام 2004، وألغت هيئة المعونة الأمريكية عقد الشركة بعد إنفاق 20.7 مليون دولار.
درة التاج.. وخيبة الرجاء:
النموذج الثالث الذي تحدث عنه التقرير هو مشروع مستشفى البصرة للأطفال والذي كان من المستهدف أن يكون درة التاج الأمريكي في العراق -بحسب تعبير التقرير- ولكنه صار عنوانا على خيبة الرجاء، ففي أغسطس من عام 2004 منحت هيئة المعونة الأمريكية مشروع بناء المستشفى إلى شركة "بيكتل" وهي إحدى كبريات الشركات الهندسية في العالم، وكان من المستهدف تشييد تحفة فنية لعلاج سرطان الأطفال، باعتباره احتياجا ملحا بعد الازدياد الهائل في حالات السرطان بالمدينة عقب حرب الخليج الأولى، ولكن ما حدث كان التالي:
تم تخطيط المشروع من قبل "مشروع الأمل" وهي مؤسسة غير حكومية يرأسها جون هوي صديق عائلة بوش، وقد تبنته كل من لورا بوش وكونداليزا رايس، كما اتخذ أيقونة للدعاية الأمريكية، لكنه كالعادة في المعونات الأمريكية لم يبال باستشارة أهل المحلة وإلا لاكتشف أن المدينة تفتقد إلى المياه النظيفة، وأن بها قسما لعلاج سرطان الدم يفتقر فقط إلى التمويل، حيث يشارك في السرير الواحد طفلان أو ثلاثة.
وقبيل الشروع في بناء المشروع في أغسطس 2005 حامت الشكوك حوله وتعرض لهجوم حاد داخل أمريكا، وبعد عام قدرت زيادة تكلفة المشروع من 50 إلى 169.5 مليون دولار، وتنبأ أحد مسئولي الشركة بفشل المشروع، وبالفعل في يوليو 2006 انسحبت الشركة من المشروع، ومن ثم توقف دون استكماله.
العنف.. وأشياء أخرى:
اليوم بعد مرور ما يقرب من أربعة أعوام على الاحتلال، سأل كاتب التقرير عددا ممن عملوا على إدارة وزارة الصحة من قبل الاحتلال عن الوضع الصحي الحالي، وأجمعوا على أن نظام الرعاية الصحية العراقي يعاني أزمة كبرى، وأن التحدي الرئيسي هو تردي الحالة الأمنية، لكنهم اختلفوا حول الأسباب الأخرى لتلك الأزمة؛ كصدور القرارات الخاصة بالشأن الصحي من غير ذوي الاختصاص من العسكريين، الذين لم يكن يعنيهم إلا كيف تبدو الأمور سياسيا، إضافة إلى تجاهل المخططين للشأن الصحي العراقي فكرة الاستعانة بخبرة المؤسسات الأهلية والدولية التي عملت طويلا في العراق.
تعددت الأسباب والمحصلة واحدة وهي أن نظام الرعاية الصحية في العراق لم يستطع استعادة عافيته، وليفعل ذلك فإن أمامه 10 سنوات بحسب التقدير المتفائل لـ "جيم هافمان" شريطة استعادة الأمن.. .....













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق